أقلام وأراء

إلغاء التوأمة.. ومحوها!

بقلم: حسن حميد

الآن، أتذكر تلك الجملة التي قالتها لي المستشرقة الألمانية المعروفة دوريس كيلياس، وأوصتني ألا أنقلها على لسانها، لأنّ حواراً طويلاً دار بيني وبينها حول فلسطين التي تعرفها جيداً، تاريخاً وبشراً وإبداعاً، وحول (إسرائيل) التي تعرفها جيداً أيضاً، قالت لي: (إسرائيل) مزحة تاريخية، هرطوقة تاريخية، بيت بلا أساس، وشجر بلا جذور حقيقية.

 ولأنني أحببت التوصيفات التي أطلقتها على (إسرائيل) المدعومة من الغرب عامّة، وألمانيا خاصّة، طلبت منها المزيد من الشرح، فقالت: حين تستقيم الأمور، أي حين يصير للعدالة حضورها، ستبدو (إسرائيل) مثل فاصلة باهتة في سطر تاريخي طويل، فاصلة لا أهمية لها، ولا قيمة، ولا معنى! قلت لها: لكن الغرب يساعد (إسرائيل) على الحياة، بل يمدّها بالحياة لتعيش توأمة مع البطش والظلم والعنصرية! قالت: هذا صحيح، لأنّ الغرب يعاني من عقدة الحرب العالمية الثانية، ومن عناوينها المأساوية، ومنها ضحايا اليهود آنذاك، قلت: وهل سيتخلص الغرب من هذا التعاطف مع (إسرائيل) وهو يرى ما تفعله سياساتُ التمييز العنصري، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية، والتهجير الجماعي والفردي للفلسطينيين؟! قالت: نعم، وبهزة رأس واثقة، قلت: ومتى سيحدث هذا؟ قالت: حين تُزال الغشاوة عن عيون الغرب، حين يعود الغربي إلى العقلانية، قلت: وهل سيعود؟ قالت: لا بدّ له من هذه العودة!

أتذكر دوريس كيلياس اليوم، وأنا أقرأ خبر إلغاء اتفاقية التوأمة ما بين مدينة برشلونة ومدينة تل أبيب الموقعة منذ 25 عاماً، وهدفها الأولاني هو التبادل ما في الحياتين الاقتصادية والسياحية بين المدينتين، وقد جاء هذا الإلغاء المهمّ والجديد في الحياة الأوروبية مطالبةً من أكثر من 100 منظمة إنسانية، وأكثر من 5000 مواطن، بإلغاء هذه التوأمة، وقطع العلاقات الرسمية ما بين الاحتلال الإسرائيلي ومدينة برشلونة والسبب جوهري هو: اقتراف السياسات الإسرائيلية جريمة الفصل العنصري والاضطهاد والإرهاب بحقّ الشعب الفلسطيني، وممارسة أبشع صور البطش والقتل والتهجير بحقّ المواطنين الفلسطينيين في المدن والقرى والبيوت والمدارس والشوارع والحقول والمعامل ودور العبادة، وقد شاركت حركة المقاطعة (BDS) مع (إسرائيل) في تثمير هذا الجهد، وتظهير هذا القرار إلى العلن.

وكان من المفترض أن تتخذ عمدة مدينة برشلونة (أدا كولاو) هذا القرار الشهر الماضي كانون الثاني 2023، لكن ولأسباب خاصة، اتخذ القرار في شهر شباط الحالي، وقد أعلنته عمدة المدينة (كولاو) بنفسها عبر وسائل الإعلام، وقالت: إنّ (إسرائيل) تستمر في انتهاكاتها المتكررة لحقوق الشعب الفلسطيني من أجل التطهير العرقي، وبالقسوة التّامة، وعلى المجتمع الإنساني أن يحاسب (إسرائيل) على ممارساتها التي لا تخلو من جنون وهستيريا، وأنّ من غير المعقول أن تمارس (إسرائيل)  سياسة التهويد، وبالقوة، في الوقت الذي يتحدّث فيه الجميع عن العالم الذي بات قرية واحدة!

وقالت (كولاو): إنّ الاحتلال الإسرائيلي يرتكب جرائم متواصلة، ولا توصيف لها سوى التمييز العنصري، والتطهير العرقي، ولهذا لا بدّ لنا من أن نجمّد اتفاقية التوأمة، وفي المقابل، سنحافظ على اتفاقية التوأمة مع مدينة غزة!

رأي عمدة مدينة برشلونة مهمّ جداً، هو بداية لتغيير محركات الوعي العقلي في بلاد الغرب، وهو بداية جيدة أيضاً تأتي من برشلونة تحديداً، لأنها ليست مدينة للاقتصاد والسياحة وحسب، بل هي مدينة للثقافة، إنها مدينة بيكاسو، الذي رسم أشهر لوحتين في تاريخ الرسم البشري، هما (الغرنيكا) التي تمثّل مقاومة الشعب الإسباني، وهو يواجه الظلموت الذي وقع عليه، واللوحة الثانية هي (لوحة السلام)، لوحة الحمامة التي تحمل غصن الزيتون! وبرشلونة هي المدينة التي عاش فيها فنانون وأدباء وكتّاب وفلاسفة ومترجمون لأنّها مدينة الثقافة والفن والجمال، لقد عاش فيها ماركيز، ويوسا، وخوان غويتسيلو، ومترجمنا الفلسطيني الفذ صالح علماني، أما لوركا، فقد جاء إليها كي لا يطاله الاغتيال المجاني في غرناطة.

أجل، مثل هذا القرار مهم جداً، ليس لأنّ صراخ واحتجاج الإسرائيليين في ضجيج محموم، منذ أعلن عن القرار، وإنما هو مهم لأنّه يمثّل لحظة تاريخية في أهميتها، وهي أنّه من الممكن للغرب أن يتراجع عن سياسات واتفاقيات ووعود وعهود اضطرته الظروف والمصالح إلى عقدها مع الكيان الصهيوني، وهذه بداية جيدة بل أكثر من جيدة، وهذا يعني أنّ كلام المستشرقة الألمانية كيلياس، صحيح، وهو لا ينتظر سوى الظروف الملائمة ليصير واقعاً. وهنا أودّ الإشارة إلى أمرين اثنين، أولهما خاص بمدينة برشلونة التي يشعر أهلها بالخصوصية، وفي جوانب حياتية وتاريخية كثيرة، ولعل أهمها أنهم يعرفون معنى الظلم ومفاعيله، وثاني الأمرين هو: أنّ أهل برشلونة وما حولها يتكلمون لغة خاصة بهم، وهي اللغة القشتالية، وكان أول من ترجم عنها مباشرة أول كتاب وباللغة العربية هو المترجم الفلسطيني صالح علماني، الذي عاش فيها السنوات الأخيرة من عمره، وقد أحبّها، ودفن فيها.

 قرار عمدة برشلونة بقطع العلاقات مع مدينة تل أبيب صحوة للعقل الغربي، وعودة إلى حقائق التاريخ، ووعي أوروبي جديد، وتوكيد جديد أيضاً بأنّ عمر الإرهاب والقوة والبطش قصير، وإن امتدّ وطال؛ وحسب العالم الحر المؤمن بحقوق الشعوب وتاريخها الحضاري، أن يجهر بالصوت العالي: إنّ (إسرائيل) زبد، ومآل الزبد الجفُّ والزوال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى