دراسات و وثائق

ماذا ستشاهد لو تمشيت في شوارع رفح؟

ليس بعيدا عن مستشفى أبو يوسف النجار في حي الجنينة بمدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، بيوت مدمرة سحقتها الطائرات الحربية الإسرائيلية، إحداها عمارة لعائلة البواب، لا يزال الركام جاثم على جثث شهداء سُجلت أسماء من لم تُنتشل جثثهم.

شاحنات وسيارات “ميكروباص” وكارات تجرها حمير وأحصنة تعمل لنقل الركاب بين الأحياء، ينادون على المارة، “عودة، طيارة، السلطان، السعودي، النجمة، البلد” الشابورة…”

موسم ذهبي لأصحاب الكارات الذين ينقلون مواطنين استلموا للتو كيس طحين (أو أكثر) من الأونروا، أو تنقل عائلات بمتاعها تبحث عن أي مخزن او مكان لخيمة تأوي إليه. وموسم جيد لهم لنقل وبيع المياه سيما وأن المياه تصل البيوت مرة كل أسبوع.

صبايا وشبان يصلون مع عائلاتهم للمدينة، يتمحصون شوارع ومباني رفح وبدَوا وكأنهم يدخلونها لأول مرة، كانوا وكأنهم يرغبون في إخفاء وجوههم خلف طرف قبعة أو منديل “لغاية في نفس يعقوب.”

المجاري تتدفق في الشوارع، فشبكة المدينة لا تحتمل أكثر من مليون مواطن نزحوا إليها وسط انقطاع التيار الكهربائي وتدمير أجزاء منها.

شبان ورجال “يتشعبطون” الشاحنات، ونسوة يقفن، أو يجلسن، على أرضية الشاحنة بين الشبان.

خلال رحلة السير البطيئة بفعل الزحام يتداول المواطنون همومهم وآراءهم. فهذا رجل من عائلة عبن لا يعرف مصير أبنائه في بيت لاهيا. “ابني وعائلته وابنتي وعائلتها لم يغادروا شمال غزة، لا أعرف هل هم أحياء أم أموات، ولا أعرف مصير البيت ولا مزرعتي”. آخرون تحدثوا عن قصص مشابهة، عائلات انقسمت نصفين في شمال وجنوب قطاع غزة، جزء تحت الركام أو “مفقود” وكل جزء لا يعرف مصير الآخر، فشبكة الاتصالات مدمرة، وكذلك الانترنت، وإن وجدت فلا كهرباء لشحن بطارية الهاتف.

والد حصل على تحويلة لعلاج ابنه المصاب في قصف اسرائيلي، وبانتظار موافقة الاحتلال لسفره، وهو واحد من 11 ألف مصاب بحاجة للعلاج في الخارج.

وهذا يندب عائلته “آل الغول” التي فقدت زهاء 150 شهيدا في مدينة غزة وآخر من عائلة “سالم” زهاء 240 شهيدا و”العرابيد” زهاء 80 شهيدا، وآخرين يتحسبنون لأنهم فقدوا شقاء العمر بدمار بيوتهم وسياراتهم ومصانعهم.

يوسف النجار، يعمل في مقهى في مخيم جباليا، يحمل طفله وبيده عبوة “لانشون” 800 غرام استلمها من مدرسة للأونروا بعد انتظار أسبوعين كما قال، في سؤال عن أهله قال: إنه فقد أمه وأخَواته الثلاث مع أولادهن وامرأة أخيه وأولادها ليبلغ مجموع الشهداء 28، والبيوت المدمرة 3 .

شاب للتو صعد الشاحنة ومعه أنبوبة غاز طبخ فارغة ومستعملة، اشتراها للتو ب 400 شيقل بعد جهد جهيد وسيبدأ رحلة البحث عن تعبئتها. والآخر يسأل عن مكان “بئر كندا” فقد سمع أن هناك متسعا لخيمة صغيرة سيدقها هناك كي يفصل بين “الحماة وكنتها” بسبب المشاحنات بين أمه وزوجته وزوجتي أخوته في الخيمة.

سيارات خاصة بالكاد تظهر إطاراتها بعد أن غطاها جسم السيارة بسبب ثقل الحمولة من متاع وأشخاص هاربين إلى رفح، وأخرى وكبيرة لا زالت تصل من وسط القطاع، سيما من دير البلح التي لم يتوقف القصف الإسرائيلي عنها رغم تصنيفها كمنطقة “آمنة”.

شاب يحمل هاتف صغير وقديم يتابع الأخبار على محطة إذاعية من الخليل تنقل صوت إحدى الفضائيات، وكل من حوله يثبتون عيونهم على الهاتف بانتظار خبر لوقف إطلاق النار أو هدنة أو أي بارقة أمل للعودة لبيوتهم. لكن كان الخبر الأبرز أن قوات الاحتلال قصفت خيام نازحين في منطقة “المواصي” المتاخمة لشاطئ البحر، والتي صنفها الاحتلال أنها منطقة “آمنة” وطلب من المواطنين التوجه إليها “حفاظا على أمنهم وسلامتهم”.

شهداء أطفال ومن مختلف الأعمار سقطوا في قصف المواصي.

تسير الشاحنة ببطء شديد، في اتجاه واحد من الشرق للغرب. رائحة زيت الطبخ المحترق والمنبعث من الشاحنة يخنق الركاب، فسعر لتر السولار بلغ 60 شاقلا، كما ينادي البائعون على قارعة الطريق وقد عبأوه في قنينات سعة لتر أو نصف لتر، أما البنزين، فينادي عليه البائعون ب 120 شاقل (تقريبا 35 دولار) للتر الواحد إن وُجد.

عيون الركاب تتمسمر بغبطة على كل شخص يحمل شيئ “نادر”؛ فرشة اسفنج، أنبوبة غاز، سلة غذائية من مؤسسة خيرية، بطانية، مخدة، كيس طحين، بطارية، شاحن لبطارية، غالون فارغ، لتر سولار… إلخ.

“منذ شهرين في رفح وأموالنا نفدت، لا أعلم من أين يحصل الناس على كوبونات المساعدة نفسي أحصل على واحدة،” قال عبد الفتاح المصري، “لدينا عمارات وسيارات وشغل كبير في خان يونس ولم نتطلع لأي مساعدة من أحد بل كنا نساعد الناس لكن الوضع هنا طال وأموالنا تحت الركام، قال المصري وهو يندب.

فتيان تهامسا حديثا حول مباراة قبل يومين بين قطبي الدوري الإسباني “ريال مدريد وبرشلونة”، وآخرين ينظرون اليهم باستخفاف.

نزل الركاب عند مفرق العودة في قلب المدينة، اضطروا للمشي غربا أسرع من السيارة، الباعة من كل الأعمار يفترشون الأرض والأرصفة. بضائع مكررة، أبرز ما يباع هو مأكولات معلبة طُبع عليها “ليس للبيع”، وصلت لمواطنين في سلات غذائية يبيع مواطنون جزءا منها لشراء أغراض أخرى لا تحتويها السلة، هذا في حال الحصول عليها.

وهناك بضائع مفقودة من أبرزها الشباشب فالآلاف هربوا من بيوتهم حفاة دون حمل أي شئ، لذا الزحام أيضا على مصلحي الأحذية، وحفاضات الأطفال، (120 شيقلا بدل 25)، والقهوة (الكيلو 240 شيقلا)، والسكر (الكيلو 25 شيقلا)، والبصل (الكيلو 25 شيقلا)، ونقص في الفرشات والبطانيات والمخدات.

طائرة حربية مرت من سماء رفح بصوت مرتفع، ترك المواطنون ما بأيديهم وتوجهت عيونهم للسماء وأفواههم مفتوحة، أخذوا وضعية الاستعداد للهروب أو الانبطاح، ثواني معدودة كانت مرعبة. غادرت الطائرة وبدأت الحركة تدب تدريجيا في السوق.

سفيان بربخ، كفيف كان برفق ولده عماد، هرب من خان يونس لرفح، قال إن أكثر ما يتعبه أن الخريطة التي طبعت في مخيلته قد تغيرت. ففي خان يونس كان يحفظ خريطة البيت والحارة ولو حدث أمر طارئ كقصف للبيت أو للحي بإمكانه الهروب لوحده، أما الآن فلا خيار أمامه سوى التجمد مكانه أو التحرك بمساعدة أحد أبنائه.

“مش قادر احفظ المداخل والاتجاهات حول الخيمة، والخيمة باردة ولا أغطية تكفي ولا طعام يكفي ولا ماء يكفي ومستوى النظافة تدنى، ولا يلتفت لنا أحد كأصحاب احتياجات خاصة.” قال بربخ.

ظواهر جديدة للالتفاف على انقطاع التيار الكهربائي، الخياط وسيم قشطة فكفك عجلات دراجة طفله وأوصلها بماكنة خياطة ليعمل في تصليح الملابس. بجانبه فتى يلف الدواليب لتدور عجلة المكينة. وفلافل على الحطب، ليس من أجل نكهة مميزة بل لشح غاز الطبخ، مقلاة كبيرة يدس البائع تحتها حطبا وملابس بالية وقنينات بلاستيك وأي شيء يحرق، ورغم الدخان الأسود الكثيف الذي يشحبر وجه البائع والمشتري إلا أن المشترين تكدسوا حوله.

آخرون اشتروا (غالبا من بقايا بيوت مدمرة) ألواح طاقة شمسية وافتتحوا مشروع “بزنس” لشحن الهواتف النقالة وأجهزة الراديو بمقابل مالي.

شبان وفتية على قارعة الطريق يبيعون مأكولات وحلويات منزلية الصنع، الفستقية والمهلبية والسمسمية والمعجنات. بلال عبد الهادي قال، إنه مختص في التسويق الالكتروني وخدمات توزيع الانترنت في غزة، نزح قسرا لرفح ويقيم في منزل أحد الأقارب. “فقدت عملي بغزة ولا مصدر دخل لي ولن أكون عالة على من يستضيفونني”، قال عبد الهادي.

بائعون آخرون يعرضون بضائع اختفت منذ عقود خلت، حبال وأكياس مختلفة الأحجام، وكوانين وتنكات سمن صدئة تستخدم كموقد.

سيدة مع زوجها أصيبت بالإغماء في الشارع، حامل بتوأم وتعاني من سوء تغذية وانخفاض نسية الهيموغلوبين في الدم. تقيم في خيمة بمدرسة وتعاني من كل شي، البرد والجوع ونقص الرعاية وقلة المال والحيلة، كل همها أن تلد وتعود لبيتها بمدينة غزة. بحاجة لطعام جيد لكن معظم ما تحصل عليه معلبات وهي ممنوعة من تناولها. وبحاجة لأدوات نظافة شخصية ولا مال لشرائها، همس زوجها متوسلا، في الصباح تنتظر دور طويل على الحمام لقضاء الحاجة ولا تتحكم في نفسها فتبول في سروالها، وبحاجة لدواء تثبيت الحمل ولا مال لشرائه، التقط رجل من أهل المدينة الوصفة الطبية وقال لن أعود الا وقد وفرتها.

طوابير في كل اتجاه، مخبز نادر يعمل أمامه طابور بالمئات، ومئات أخرى في كومة على باب المخبز. وطابور على نقطة بيع مياه، انقسم نصفين نصف للرجال وآخر للنساء لتعبئة غالون ماء مجاني وآخر بشيقلين لكل غالون. يحمل الأطفال الغالون على عجلات صغيرة وكراسي متحركة لكهل توفى أو مريض حي، وسط وحل مياه المجاري أو مياه متسربة.

قرب الحديقة “اليابانية” تجمع عدد من الفتية والأطفال حول ماسورة مياه، اندلق برميل سعة 500 لتر على فتى زهاء 10 سنوات، لم يكن واضحا لماذا بكى؛ بسبب خسارته للماء أم للألم في ساقه أم بسبب البرد أم لأن ملابسه اكتست بالوحل.

طابور أمام بائع العوامة، وطابور عند موزع غاز الطبخ، بجانبه رجل عرض أنبوبة غاز مستعملة مع فرش بوتاغاز مستعمل بمبلغ 1000 شيقل.

ومواطنون من كل الأعمار يلملون الحطب وقطع الكرتون من أي زاوية لاستخدامها في الطبخ او تسخين المياه او غير ذلك.

قرب حي تل السلطان تجمع مواطنون في مدرسة تابعة للأونروا، فقد كان موعدا لهم اليوم لاستلام طرد غذائي، لكنهم خرجوا غاضبين لأن الطرد كان عبارة عن قنينة ماء وقطعتي بسكويت (200 غرام) وقطعة معجنات لعائلة 6 أنفار. “زمان كانوا يعطوا أحسن من هيك، بس العدد زاد”.

على جانبي الطريق في الشارع المؤدي للحي السعودي اكتظت الأرصفة بمعرشات صنعها مواطنون لتؤويهم. الكثير منهم يخجل أن يظهر نفسه كنازح أو لاجئ، فيخرج يتمشى قرب الحدود المصرية مبتعدا عن الزحام، تاركا سيارته الفخمة التي تقدر ب 60 ألف دولار بجانب عريشة من النايلون كلفتها 160 شيقل قبل غلاء الأخشاب والبلاستيك.

نقلا عن وكالة الانباء الفلسطينية “وفا”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى