عائدون من الجحيم
بقلم: د. باسم خضر التميمي
بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي قبل السابع من أكتوبر 5,192 أسيرا، منهم 1,319 معتقلا إداريا، ويفيد التقرير الصادر عن منظمة “بيتسلم” في آب/أغسطس الماضي أن عدد المعتقلين حتى تموز/ يوليو الماضي ارتفع إلى 9,623 بينهم 4,781 معتقلا دون محاكمة ودون توجيه أية اتهامات ضدهم، وخلال الفترة المذكورة اعتقل آلاف أخرون لفترات زمنية مختلفة ثم أطلق سراحهم دون تقديم لوائح “اتهام” ضدهم. وهذا لا يشمل آلاف المعتقلين من قطاع غزة الذين يخضعون لجريمة الإخفاء القسري.
ترافق عدوان الاحتلال منذ السابع من أكتوبر مع حملة إعلامية تحريضية واسعة تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم أمام الرأي العام الإسرائيلي، هذه العملية المتواصلة منذ النكبة الفلسطينية تعمّقت بعد السابع من أكتوبر إلى أن أضحت مفهوما مقبولا وسائدا في الخطاب العام الإسرائيلي.
الدعوات الصريحة لإبادة الشعب الفلسطيني والترحيل الجماعي ووصف الفلسطينيين بشتى الأوصاف التي أطلقتها قيادات سياسية ووزراء في حكومة الاحتلال، أصبحت الوجبة الرئيسية التي يتناولها الإعلام الإسرائيلي ويروّج لها، وأصبح الجمهور الإسرائيلي بكل أطيافه السياسية غير مبال لمقتل عشرات آلاف الفلسطينيين المدنيين، هذه الصورة الذهنية التي تشكلت لدى المجتمع الإسرائيلي خلقت البيئة الملائمة التي تعتبر التنكيل بالأسرى الفلسطينيين أمرا مقبولا بل مرغوب فيه.
كل العائدين من الجحيم لهم نفس الصفات: هياكل من عظام تكسوها الجلود، ذات سيقان نحيلة عجزت عن حملها، وجوه شاحبة ملتحفة لحى طويلة، وكذا الرؤوس تحمل شعرا مغبرا خشنا أشعث، ألسنة تثقلها الكلمات فتعجز مسامعك عن فهم ما تلقيه عليها، عيون غائرة مشتتة لا تميز ما تراه، أذهان شاردة تعيش في ملكوت آخر، حزن يرتسم طاردا كل فرح، ذهول من هول ما حمل الجسد والذاكرة من ذكريات وآلام وعذابات. كل العائدين من الجحيم لا يستقبلهم أبناؤهم ولا نساؤهم ولا عوائلهم، كل العائدين من الجحيم ينزلون أياما في ضيافة الأطباء والمشافي، أمراض استوطنت مع الوهن أجسادهم النحيلة، وندوب تخفي خلفها بطش السجان وسياطه.
كل من رأينا من المحررين روى لنا قصصا يندى لها جبين الإنسانية، وتعبر عن مخزون فائض من الحقد لدى سجان أراد به تحطيم إرادة الفلسطيني وسلبه آدميته وكرامته، فمن حشر أحد عشر أسيرا في زنزانة تتسع لأربعة، إلى الإقفال على الأسرى في الزنازين وحرمانهم من ضوء الشمس والهواء، واستغلال العد والتفتيش والذي أصبح يمارس من ثلاث إلى خمس مرات يوميا كوسيلة إضافية للإذلال والتحقير، إلى عزلٍ للأسرى عن العالم الخارجي ومنع التواصل معهم بما فيه الحق في اللجوء إلى القضاء ومنع مقابلات المحامين والزيارات العائلية والمكالمات الهاتفية، وفرض القيود على ممارسة العبادة من مصادرة المصاحف ومنع صلاة الجماعة في الزنازين والمعتقلات، ومصادرة متعلقات الأسرى من ملابس وأحذية وراديو وتلفاز ومواد تنظيف وأغذية وكتب، وقطع الكهرباء عن الزنازين وفرض الحياة في الظلمة على الأسرى.
تعرض الأسرى للتنكيل الجسدي والنفسي من اعتداءات وحشيّة خلال جميع مراحل الاعتقال، أثناء الاعتقال نفسه، عند التنقل، خلال مرحلة الاستيعاب في السجن، أثناء عمليّة العد، وأثناء تفتيش الزنازين، فالعنف حاضر بشكل منهجي ومتواصل كجزء من الروتين اليومي، في كل خروج ودخول إلى الزنازين، أثناء الزيارات النادرة إلى العيادة، قبل وبعد جلسات المحكمة، وحتّى عشية الإفراج عن الأسير.
كان الحرمان من النوم جزءا من سلسلة ممارسات التنكيل اليومية التي تعرّض لها الأسرى، في بعض الحالات كانت الزنازين تبقى مضاءة طوال الليل، وفي حالات أخرى كان السجانون يطلقون موسيقى صاخبة أو ضوضاء لمنع الأسرى من النوم، كما ذُكر الكثير بشأن الاستخدام المتكرر للعنف الجنسي من قبل الجنود أو السجانين ضد الأسرى الفلسطينيين كوسيلة عقابية إضافية.
لقد مارس الاحتلال سياسة حرمان الأسرى من أدنى مقوّمات الحياة، فغاب العلاج الطبي وتم حرمان الأسرى منه، مرورا بالحرمان من الغذاء واتباع سياسة التجويع حيث كان يقدم للأسرى وجبتين يوميا، وكان يُقدم طعام أسيرين لأثني عشر أسيرا، كما تم منع الأسرى من شراء الطعام، ما أدى إلى فقدانهم الوزن بشكل كبير، فجعل من أجسادهم فريسة سهلة للمرض، يضاف إلى كل ذلك تقليص النظافة الشخصية وقطع المياه ومنع الأسرى من الاستحمام لأسابيع، ومنع غسل الملابس الوحيدة التي يمتلكونها وهي نفسها التي يرتدونها إلا مرة كل أسابيع طويلة.
حين تستمع لروايات الأسرى المحررين الذين احتجزوا في مختلف مرافق سجون الاحتلال، وحين تتابع التصريحات الصادرة عن المسؤولين عن مصلحة السجون في دولة الاحتلال فإن ذلك يقودك إلى حقيقة واضحة لا مجال للشك فيها بأن ما يجري من ممارسات إنما يعبر عن سياسة محددة وتعليمات موجهة تتبعها سلطات السجون الإسرائيلية بدعم تام من حكومة الاحتلال ورئيسها.