ما يجري في قطاع غزة ليس مثله شيء آخر
بقلم: باسم برهوم
قبل حرب العام 1948 لم يكن هناك شيء يطلق عليه قطاع غزة، كان هناك مدينة غزة، ومدن وبلدات في الحافة الجنوبية لفلسطين، خان يونس، ورفح، وبيت لاهيا، وجباليا، كانت غزة مدينة مزدهرة، لا تختلف في حياتها الاجتماعية عن يافا أو بيروت وحتى نابولي جنوب إيطاليا، كان الساحل الفلسطيني مثله مثل سواحل اليونان وإيطاليا والإسكندرية في مصر. كانت شواطئ غزة تعج بالناس ذكورا وإناثا يستمتعون بالشمس بالسباحة بمظهر عصري حضاري، من دون أي حواجز.
لغزة تاريخ عريق، وفي الزمن الإغريقي والروماني والبيزنطي، كانت غزة قبلة الفلاسفة والمفكرين والفنانين والمعماريين وكذلك الزهاد والرهبان بعد المسيحية.
وغزة هاشم كانت قبلة القوافل التجارية العربية من الجزيرة واليمن، ومن مصر إلى بلاد الشام. حلقة وصل بين الساحل الأفريقي والآسيوي ومهبط سواحل الشمال الأوروبي. غزة لم تكن أقل أهمية من القدس، وعسقلان والرملة، المدينة التي بناها العرب، وقيسارية وعكا، ونابلس، (نيوبولس) ولا عن صيدا وصور، مدينة لها تاريخ وحاضر.
بعد حرب العام 1948 وتقاسم فلسطين ومحوها عن الخارطة ظهر مصطلحان حلا محل فلسطين “الضفة الغربية” باعتبارها مكملة للضفة الشرقية وتكونان معا المملكة الأردنية الهاشمية، وبرز في الوقت نفسه مصطلح “قطاع غزة” وهو الجزء الجنوبي الغربي من فلسطين الذي أصبح تحت الإدارة المصرية.
ثم بدأنا نسمع بقطاع غزة الذي احتلته إسرائيل خلال حرب السويس العام 1956، لكن احتلالها لم يدم طويلا بعد أن وجهت الولايات المتحدة الأميركية والأتحاد السوفييتي إنذارا لدول الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) بالانسحاب من منطقة قناة السويس وفي الطريق انسحاب إسرائيل من صحراء سيناء وقطاع غزة، وعادت إليه قوات الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران/ يونيو 1967 “حرب الأيام الستة” كما أطلقت عليها إسرائيل.
وبالرغم أن القطاع انفتح على الضفة، وعلى الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، إلا أن القطاع بقي قطاعا، له ظروفه الخاصة، فلم تسمح دولة الاحتلال لنقل السكان بين غزة والضفة للإقامة الدائمة، وبقي مجتمعا منفصلا له ظروفه الاقتصادية والاجتماعية الخاصة.
وبعد اتفاقيات أوسلو، شعر المواطنون في قطاع غزة أنهم للمرة الأولى في ظل حكم وطني فلسطيني، وياسر عرفات اختار الإقامة في غزة، وبدون شك شهد القطاع نهضة شاملة في البنى التحتية محطة توليد كهرباء، مطار، وبدأ العمل ببناء ميناء وتم التنقيب عن الغاز في سواحل القطاع، مستشفيات، مدارس جامعات، عادت عجلة الحياة الثقافية، لكن ذلك تأثر بالانتفاضة الشعبية الثانية، فقد أصبح التنقل بين الضفة وغزة صعبا وقامت إسرائيل بتدمير المطار وقسم كبير من البنى التحتية وتوقف التنقيب واستخراج الغاز.
وتفاقم الوضع وأصبح القطاع يخضع للحصار بعد سيطرة حماس عام 2007، دفع القطاع ثمن فصله عن الشرعية الوطنية، والانقسام ومحاولات تغيير هويته الوطنية.
وبعد السابع من أكتوبر من العام الماضي تحول قطاع غزة إلى مقتلة، إلى حالة لا تشبهها حالة أخرى في التاريخ، أكثر من مليوني إنسان ليس لهم أي ملاذ آخر، هم عرضة للقتل والتدمير والتهجير من مكان إلى آخر، رائحة الموت تفوح من كل زاوية، الخوف والرعب، والجوع والبرد والحر بدون كهرباء وماء عذب.
وبالمقارنة مع لبنان، على سبيل المثال، وبالرغم من بشاعة الحالة هناك، وما فيها من دمار وتشريد، إلا أنه في نهاية الأمر لدى من شردوا ملاذ في مناطق لا تصلها الحرب في وطنهم، أما في قطاع غزة فالناس هناك من قصف لآخر، وتتعامل إسرائيل معهم كأنهم، حقل لتجارب القتل بكافة أنواع الأسلحة، مصحوبة بحصار مشدد لا غذاء ولا دواء ولا ماء صالح للشرب.
في قطاع الناس يتنقلون في مساحة تقل عن 200 كيلو متر مربع، بعد أن قام جيش الاحتلال بتقطيع أوصال هذا الشريط الفلسطيني الضيق إلى ثلاثة أجزاء عمليا، أوضاع الناس تشبه من يضع كائنات صغيرة في صندوق وينكل بهم دون رحمة.
في غزة كل ذلك يتم وأكثر بكثير، لا يمكن إعطاء وصف دقيق لما يجري، فالأرقام والمعطيات لا تعبر عن الواقع أبدا، فهو أبشع من ذاك بكثير، فالمسألة لا تقف عند مائة وخمسين ألف شهيد وجريح ومصاب، ولا عند مئات الآلاف من الوحدات السكانية المدمرة، ولا البنى التحتية، طرق وشبكات مياه وكهرباء، ومدارس وجامعات ومستشفيات. المسألة أن البشر أنهكوا ودمروا من الداخل والخارج، فقدوا الأمل بأي مستقبل، أو عودة لما كانت عليه حياتهم رغم أنها كانت صعبة.
كل الغزيين لا هم لهم سوى النجاة، التفكير لحظة بلحظة، الغد هو مجهول، فالبقاء مرهون أن يبقى المرء متيقظا، لأن غمضة عين قد تكلفه حياته، ليس هناك من ملاذ آمن، سوى قدرة الفرد على الحدس وتوقع الموت والهروب منه إن أمكن.
النجاة هي لحظية، وعلى الغزاوي أن يجمع لحظات النجاة ليعبر الأيام الثقيلة المرهقة، ليكيف نفسه مع الخوف والجوع.. في غزة لا شيء يشبهه لا في صفحات التاريخ ولا ما هو راهن، في غزة يعيش الناس في عصور ما قبل الحضارة، أو أن الحضارة بحد ذاتها كذبة كبيرة.