“أبو السنتين” الذي حضر ورحل مسرعا
انتهت دورة حياة محمد هيثم التميمي، بعد عامين ونصف، انتقل فيهما من طور الرضيع إلى طور الطفل، وتوقف عند ذلك ليس بإرادته.
وبإرادته وضع جندي حدا لحياة محمد، أطلق النار صوبه حين كان يهم بمغادرة المنزل بصحبة أسرته، للتوجه إلى حفل عيد ميلاد لابنة خالته، في بلدة دير نظام المجاورة لبلدة النبي صالح، شمال رام الله.
كان أفراد الأسرة الأربعة، الوالدان والطفلان أسامة ومحمد، يتهيؤون يوم الخميس الماضي لمغادرة المنزل المقابل لحاجز جيش الاحتلال الإسرائيلي وثكنته العسكرية عند مدخل النبي صالح، نحو حفلة عيد ميلاد، وكان الأب الذي يعمل طباخا قد أعد الكعكة.
تقول مروة والدة محمد: “جهزت محمد، وأخذته إلى زوجي هيثم عند مدخل البيت وطلبت منه أن ينتبه إليه حتى أصلي المغرب، وما إن دخلت حتى بدأ إطلاق النار”.
خرجت مروة مسرعة لتستكشف ما يجري، فشاهدت زوجها يقوم بمحاولة إبعاد المركبة عن مصدر النار، وكان إطلاق الرصاص متواصلا صوب المركبة التي كان محمد ووالده على متنها.
وسمعت زوجها يصرخ: “حمودة.. حمودة”، كان الأول مضرجاً بدمائه ومصاباً ويبدو أنه غير مدرك لذلك، بينما كان محمد ينزف من رأسه المخترق من جانبه الأيمن، ومروة عاجزة عن الحراك بسبب كثافة إطلاق النار.
تصف مروة المشهد بالفظيع، ولم تر عينها حدثاً قريباً عليه في القسوة سوى اغتيال الطفل محمد الدرة (12 عاما)، الذي استشهد في حضن والده، وهما يحاولان الاحتماء ببرميل إسمنتي من وابل نيران الاحتلال في شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة، في أيلول/ سبتمبر 2000.
بالحيثيات المتوفرة لدى العائلة، فإن شكل القتل لم يختلف كثيراً، إلا أن إحداها في النهار ورصدتها الكاميرات والأخرى كانت عندما بدأ يهبط الظلام. أما بقية العناصر فهي واحدة، طفل ووالده، وإطلاق نار كثيف لا مبرر له إلا القتل.
أحد الجيران أقل محمد ووالده نحو الحاجز المقام على مدخل النبي صالح، وبعد أن شاهد جنود الاحتلال حالة الطفل وأبيه قرروا السماح لهما بالخروج.
ونظراً لخطورة وضع الطفل سمح بنقله للعلاج في مستشفى “تل هشومير” الإسرائيلي، أما هيثم فنُقل إلى المستشفى الاستشاري بمدينة رام الله، وأخضع لعملية جراحية فورية كونه مصابا بالرصاص في الكتف على مقربة من مجمع شرايين تغذي الدماغ، وشظية رصاصة في الرقبة.
وحين لحقت بهما مروة صوب الحاجز لتطمئن عليهما، حاول أحد الجنود منعها تحت تهديد السلاح، وقال: “إن لم ترجعي إلى الوراء سأطلق النار”.
تروي مروة: “قلت له ابني راح”، ليرد علي وقد وجّه سلاحه نحوي “إن لم ترجعي سأطلق الرصاص”.
ولم تكتف سلطات الاحتلال وماكينتها الإعلامية بقتل الطفل وإصابة والده وتهديد أمه، بل راحت تروج بعد نقله إلى مستشفى “تل هشومير” أنه أصيب خلال شجار عائلي ولا علاقة للجيش بالحادثة.
تشير مروة إلى أنها استمعت أكثر من مرة من لمّا وصلت لمرافقة صغيرها خلال الأيام التي تلت الإصابة في المستشفى الإسرائيلي إلى أنه ضحية لشجار، وحاولت تبديد هذه الرواية التي عمل الاحتلال على تعزيزها باحتجاز مركبة العائلة التي تعرضت لإطلاق النار بداعي التحقيق في مصدر الرصاص.
تحمد مروة الله كثيراً على ما أعطى وعلى ما أخذ، “الحمد لله أن ربنا اصطفى محمدا شهيدا. مصدر فخر وذخر أنه طفل ومظلوم وشهيد، وربنا لا يجتبي إليه إلا الخيّرين”.
وتذكر أن ابنها جاء إلى الدنيا مستعجلاً ورحل عنها كذلك، حيث وضعته في الشهر الثامن من الحمل، في ظروف صعبة، وبقي على قيد الحياة بمعجزة.
تقول مروة: “بعد الولادة مكث في الحاضنة لمدة شهر، وكان بالنسبة للأطباء أقرب للمعجزة أن يتجاوز تلك المرحلة الحرجة ويبقى على قيد الحياة. والحمد لله عاش إلى أن اختاره الله شهيدا. طفل وبريء وشهيد، ليس هناك كرامة أعظم من هذه”.
تتحدث مروة كذلك عن الذكاء الشديد الذي امتاز به “أبو السنتين” في إشارة إلى صغيرها الراحل محمد، وتتحدث كيف كان يمسك القلم ويحاول أن يكتب مقلدا شقيقه الأكبر أسامة، ابن الصف الثاني في تأدية واجباته المدرسية.
وتضيف: “كان أبو السنتين يحاول الكتابة قبل أن يتعلم الكلام، كان يردد (الله أكبر) بحروف بعضها غير مفهوم إذا ما قمت للصلاة، ويبقى ساجداً ما دمت أصلي. من لم يكن يحب محمد؟”.
المنزل هو أكثر الأماكن التي يجب أن يشعر فيها الإنسان بالأمان، إلا إن منزل هيثم التميمي في النبي صالح لم يكن كذلك.
إذ شهد قبل أسابيع حادثة إطلاق نار من جيش الاحتلال بينما كانت مروة وابنها الأكبر أسامة (8 سنوات) داخله، فاخترقت رصاصة الباب الزجاجي ولطف الله حال دون أن يصاب أي منهما بأذى.
كما أن سلطات الاحتلال سلمت مؤخراً إخطاري هدم للمنزل، ومنعت ساكنيه من الإضافة إلى المبنى القائم أو تغييره لانتظار البت في مستقبله، بزعم قربه من الحاجز العسكري، ويقام على أراضٍ مصنفة “ج”.
نقلا عن وكالة الانباء الفلسطينية “وفا”