مغسل الموتى… أشلاء ونقص أكفان
في غرفة تغسيل وتكفين الموتى بمستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، يرتب نواف الزريعي طاولة غسيل الموتى بانتظار جثة شهيد أو متوفي ليلحده ويحضره للدفن.
ويقول الزريعي (57 عاما) إنه عاصر أكثر من عدوان وحرب على غزة، وهناك اختلاف بينها وبين العدوان الجاري الذي تشنه قوات الاحتلال على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي.
وقال إن أكثر علامة فارقة هي عدد الشهداء المهول، وحجم الجثث المحترقة والمتقطعة، والأشلاء، مضيفا: “عدد الشهداء مهول ومرت أيام وليال كثيرة لم نلتقط أنفاسنا سيما وأن مستشفى شهداء الأقصى هو المركزي في محافظة وسط قطاع غزة، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 300 ألف نسمة”.
وتضم محافظة الوسطى مدينة دير البلح ومخيمها، ومخيمات النصيرات، والمغازي، والبريج، وقرى المصدر، والزوايدة، ووادي السلقا.
وأشار الزريعي إلى أن ارتفاع نسبة الأطفال والنساء من الشهداء هي أيضا من أهم العلامات الفارقة التي ميزت هذا العداون.
واستشهد أكثر من 36 ألف مواطن، 71% منهم من النساء والأطفال.
وتابع: “هناك عائلات تنزح عند أقارب أو أنساب أو أصدقاء ويتكدسون في بيت واحد، وعندما تستهدفهم قوات الاحتلال يكون العدد كبير جدا من نفس العائلة أو عائلتين أو ما شابه”.
ونزح أكثر من مليون مواطن من محافظتي غزة والشمال باتجاه جنوب القطاع، فمنهم من أقام عند أقارب أو أصدقاء أو أنسباء.
وتشير تقديرات لليونيسيف إلى أن حوالي 1.7 مليون شخص نزحوا داخليا نصفهم من الأطفال.
وأوضح الزريعي أن حجم الأشلاء الذي يصل المستشفى مهول، من أطفال ورجال ونساء، يتم نقلهم في أكياس وأحيانا قطعة من يد أو قدم، وبعد ساعة يصل متطوعون أو مسعفون بأشلاء أخرى لا نعرف تتبع من ويتم ضمها للأشلاء الصغيرة ودفنها.
وقال: “الجثث بعضها محروقة حتى العظم، وكثير منها تشوهت الملامح فلا تستطيع أن تتعرف على ملامح الشهداء”.
ومن أكثر الصور إيلاما، وفقا للزريعي، هو وصول أطفال ممزقين ولا تجد من يسأل عنهم، لأن أبويهم وأقاربهم وصلوا أيضا معهم شهداء.
وأضاف أن هناك شهداء يبقون عدة أيام إلى حين التعرف عليهم من أقارب آخرين، وشهود ومعرفين، بجانب بطاقة الهوية التي غالبا تكون في الجيب.
ويعمل الزريعي متطوعا منذ 7 سنوات في مشرحة المستشفى مع عدد من رفاقه الرجال، بينما يوجد فريق آخر من النساء خاص بتغسيل ولحد النسوة.
خلال اللقاء وصل 3 رجال يسألون الزريعي، ما إذا كفن شابا “مجهول الهوية” خلال الأسبوع الماضي؟ مجيبا بالنفي.
وقال إن هذا المشهد من المشاهد المؤلمة والمتكررة، سؤال بعض المواطنين عن أبناء وأقارب لهم، ربما يجدونه شهيدا في أحد الشوارع أو على قيد الحياة عند أحد المعارف أو في مستشفى.
وتنتشر في غزة ظاهرة ملصقات على الجدران، أو نداءات عبر منصات التواصل الاجتماعي لمواطنين يسألون عن أقاراب لهم.
وأطلقت امرأة صرخة مدوية من غرفة “ثلاجة الموتى” المجاورة بعد أن تعرفت على نجلها الشهيد الذي غاب عدة أيام قبل أن يتم التعرف عليه.
وحول ما يعيق عمله في هذه الآونة، قال الزريعي إن نقص الأكفان أحد أهم المعيقات، وعدد الشهداء كبير والمعابر مغلقة لا يدخل منها أكفان إلا القليل.
وأشار الزريعي إلى أن طقوس اللحد تكون وفقا للشريعة الإسلامية، لكن هناك حالة أو أكثر كانت لمواطن مسيحي تم التعامل معه وفق الديانة المسيحية على يد أناس استدعاهم ذووهم.
وأضاف: “لم أستطع أن أشارك في جنازة ابن عمي وابن أخي وأحد الزملاء، شعرت بألم وذنب كبيرين”.
وتابع: “من أقسى المراحل الأشهر الأولى للعدوان، إضافة إلى مرحلة ما بعد انسحاب قوات الاحتلال من مدينة خان يونس بعد أربعة أشهر من التوغل البري فيها ومحاصرتها”، مبينا أنه في الأشهر الأولى لم يتوقف خروج الجنازات من المستشفى أما بعد الانسحاب من خان يونس فتم نقل مئات الشهداء في فترة قصيرة كان الاحتلال دفنهم في مقابر جماعية.
وكانت فرق الإنقاذ قد انتشلت زهاء 400 شهيدا من مقابر جماعية داخل وحول مستشفى ناصر، وكان من ضمن الشهداء أطفال ونساء ورجال، منهم مبتوري الأطراف وآخرين مقيدي الأيدي والأرجل.
بعد كل انسحاب لقوات الاحتلال من مواقع التوغل، تصل جثث مشوهة جدا، وأحيانا هياكل عظمية، وأحيانا جثث متحللة لأنه مضى عليها أيام وهي في العراء، وأخرى قد نهشتها الكلاب.
وحول التعامل مع الجثث، قال الزريعي إن التعامل يختلف من جثة لأخرى، فالشهيد لا يُغسل ولا يكفن ويدفن بملابسه كما هو، ويتعامل مع جميع من يموت في قصف الاحتلال كشهداء.